فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{واضرب لَهُمْ مَّثَلًا أصحاب القرية}.
إما عطف على ما قبله عطف القصة على القصة وأما عطف على مقدر أي فأنذرهم واضرب لهم الخ، وضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بأخرى مثلها كما في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ} [التحريم: 0 1] الآية وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال} [إبراهيم: 5 4] في وجه أي بينا لكم أحوالًا بديعة هي في الغرابة كالأمثال.
فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلًا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب أي طبق حالهم بحالهم على أن {مَثَلًا} مفعول ثان لا ضرب {وأصحاب القرية} مفعول الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه، وعلى الثاني اذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل، وقوله سبحانه: {أصحاب القرية} بتقدير مضاف أي مثل أصحاب القرية وهذا المضاف بدل كل من كل أو عطف بيان له على القول بجواز اختلافهما تعريفًا وتنكيرًا، وجوز أن يكون المقدر مفعولًا وهذا حالًا.
والقرية كما روى عن ابن عباس وبريدة وعكرمة انطاكية، وفي البحر إنها هي بلا خلاف.
{إِذْ جَاءهَا المرسلون} بدل اشتمال {مِنْ أصحاب القرية} أو ظرف للمقدر، وجوز أن يكون بدل كل من {أصحاب} مرادًا بهم قصتهم وبالظرف ما فيه وهو تكلف لا داعي إليه، وقيل، إذ جاءها دون إذ جاءهم إشارة إلى أن المرسلين أتوهم في مقرهم، والمسلون عند قتادة.
وغيره من أجلة المفسرين رسل عيسى عليه السلام من الحواريين بعثهم حين رفع إلى السماء، ونسبة إرسالهم إليه تعالى في قوله سبحانه: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} بناء على أنه كان بأمره تعالى لتكميل التمثيل وتتميم التسلية، وقال ابن عباس وكعب هم رسل الله تعالى: واختاره بعض الأجلة وادعى أن الله تعالى أرسلهم ردءًا لعيسى عليه السلام مقررين لشريعته كهرون لموسى عليهما السلام، وأيد بظاهر {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} وقول المرسل إليهم {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [يس: 5 1] إذ البشرية تنافى على زعمهم الرسالة من الله تعالى لا من غيره سحبانه، واستدل البعض على ذلك بظهور المعجزة كإبراء الأكمه وإحياء الميت على أيديهم كما جاء في بعض الآثار والمعجزة مختصة بالنبي على ما قرر في الكلام، ومن ذهب إلى الأول أجاب عن الأول بما سمعت وعن الثاني بأنهم إما أن يكونوا دعوهم على وجه فهموا منه أنهم مبلغون عن الله تعالى دون واسطة أو أنهم جعلوا الرسل بمنزلة مرسلهم فخاطبوهم بما يبطل رسالته ونزلوه منزلة الحاضر تغليبًا فقالوا ما قالوه، وعن الثالث بأن ما ظهر على أيديهم إن صح الأثر كان كرامة لهم في معنى المعجزة لعيسى عليه السلام ولا يتعين كونه معجزة لعم إلا إذا كانوا قد ادعوا الرسالة من الله تعالى بدون واسطة وهو أول المسألة، و{إِذْ} بدل من إذ الأولى، والإثنان قيل يوحنا وبولس، وقال مقاتل تومان وبولس، وقال شعيب الجبائي شمعون ويوحنا، وقال وهب وكعب: صادق وصدوق، وقيل نازوص وماروس.
وقيل: {أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ} دون أرسلنا إليها ليطابق إذ جاءها لأن الإرسال حقيقة إنما يكون إليهم لا إليها بخلاف المجيء وأيضًا التعقيب بقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُمَا} عليه أظهر وهو هنا نظير التعقيب في قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] وسميت الفاء الفضيحة لأنها تفصح عن فعل محذوف وكان أصحاب القرية إذ ذاك عباد أصنام {فَعَزَّزْنَا} أي قويناهما وشددنا قاله مجاهد وابن قتيبة، وقال يقال تعزز لحم الناقة إذ صلب، وقال غيره: يقال عزز المطر الأرض إذا لبدها وشدها ويقال للأرض الصلبة العزاز ومنه العز بمعناه المعروف، ومفعول الفعل محذوف أي فعززناهما {بِثَالِثٍ} لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به.
وهو على ما روى عن ابن عباس شمعون الصفا ويقال سمعنان أيضًا، وقال وهب وكعب: شلوم وعند شعيب الجبائي بولص بالصاد وبعضهم يحكيه بالسين.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو بكروالمفضل وأبان {فَعَزَّزْنَا} بالتخفيف وهو التشديد لغتان كشدة وشدده فالمعنى واحد، وقال أبو علي المخفف من عزه إذا غلبه ومنه قولهم من عزيز أي من غلب سلب، والمعنى عليه فغلبناهم بحجة ثالث.
وقرأ عبد الله {بالثالث} {بالبينات فَقَالُواْ} عطف على {فَكَذَّبُوهُمَا} فعززنا والفاء للتعقيب أي فقال الثلاثة بعد تكذيب الإثنين والتعزيز بثالث {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} ولا يضر في نسبة القول إلى الثلاثة سكوت البعض إذ يكفي الاتفاق بل قالوا طريقة التكلم مع الغير كون المتكلم واحدًا والغير متفقًا معه.
{قَالُواْ} أي أصحاب القرية مخاطبين للثلاثة {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} من غير مزية لكم علينا مجبة لاختصاصكم بما تدعونه، ورفع {بُشّرَ} لانتقاض النفي بالافان ما عملت حملًا على ليس فإذا انتقض نفيها بدخول إلا على الخبر ضعف الشبه فيها فبطل عملها خلافًا ليونس؛ ومثل صفة {بُشّرَ} ولم يكتسب تعريفًا بالإضافة كما عرف في النحو {وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء} مما تدعون من الوحي على أحد وظاهر هذا القول يقتضي إقرارهم بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام وكان تخصيص هذا الاسم الجليل من بين أسمائه عز وجل لزعمهم أن الرحمة تأبى إنزال الوحي لاستدعائه تكليفًا لا يعود منه نفع له سبحانه ولا يتوقف إيصاله تعالى الثواب إلى البعض عليه، وقيل ذكر الرحمن في الحكاية لا في المحكي وهم قالوا لا إله ولا رسالة لما في بعض الآثار أنهم قالوا ألنا إله سوى آلهتنا، والتعبير به لحمله تعالى عليهم ورحمته سبحانه إياهم بعدم تعجيل العذاب آن إنكارهم ولعل ما تقدم أولى وأظهر ولا جزم بصحة ما ينافيه من الأثر.
{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} فيما تدعون وهذا تصريح بما قدوه من الجملتين السابقتين واختيار تكذبون على كاذبون للدلالة على التجدد.
{قَالُواْ} أي المرسلون {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} استشهدوا بعلم الله تعالى وهو جاري مجرى القسم في التأكيد والجواب بما يجاب به، وذكر أن من استشهد به كاذبًا يكفر ولا كذلك القسم على كذب، وفيه تحذيرهم معارضة علم الله تعالى، وفي اختيار عنوان الربوبية رمز إلى حكمة الإرسال كما رمز الكفرة إلى ما ينافيه بزعمهم.
وإضافة رب إلى ضمير الرسل لا يأبى ذلك، ويجوز أن يكون اختياره لأنه أوفق بالحال التي هم فيها من إظهار المعجز على أيديهم فكأنهم قالوا ناصرنا بالمعجزات يعلم إنا إليكم لمرسلون، وتقديم المسند إليه لتقوية الحكم أو للحصر أي ربنا يعلم لا أنتم لانتفاء النظر في الآيات عنكم.
{وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين} إلا بتبليغ رسالته تعالى تبليغًا ظاهرًا بينًا بحيث لا يخفى على سامعه ولا يقبل التأويل والحمل على خلاف المراد أصلًا وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة علينا من جهة ربنا كذا قيل، والأولى أن يفسر التبليغ المبين بما قرن بالآيات الشاهدة على الصحة وهم قد بلغوا كذلك بناء على ما روى من أنهم أبرؤا الأكمه وأحيوا الميت أو أنهم فعلوا خارقًا غير ما ذكر ولم ينقل لنا ولم يلتزم في الكتاب الجليل ولا في الآثار ذكر خارق كل رسول كما لا يخفى، ثم إن ذلك إما معجزة لهم على القول بأنهم رسل الله تعالى بدون واسطة أو كرامة لهم معجزة لمرسلهم عيسى عليه السلام على القول بأنهم رسله عليه السلام، والمعنى ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ البين بالآيات وقد فعلنا فلا مؤاخذة علينا أو ما علينا شيء نطالب به من حهتكم إلا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور وقد بلغنا كذلك فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا بدعوانا ولكون تبليغهم كان بينا بهذا المعنى حسن منهم الاستشهاد بالعلم فلا تغفل، وجاء كلام الرسل ثانيًا في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جدًا حيث أتوا بثلاث جمل وكل منها دال على شدة الانكار كما لا يخفى على من له أدنى تأمل قال السكاكي: أكدوا في المرة الأولى لأن تكذيب الإثنين تذكيب للثالث لاتحاد المقالة فلما بالغوا في تكذيبهم زادوا في التأكيد، وقال الزمخشري: إن الكلام الأول ابتداء أخبار والثاني جوا بعن إنكار، ووجه ذلك السيد السند بأن الأول ابتداء إخبار بالنظر إلى أن مجموع الثلاثة لم يسبق منهم إخبار فلا تكذيب لهم في المرة الأولى فيحمل التأكيد فيها على الاعتناء والاهتمام منهم بشأن الخبر انتهى، وفيه أن الثلاثة كانوا عالمين بإنكارهم والكلام المخرج مع المنكر لا يقال له ابتداء اخبار، وقال صاحب الكشف: أراد أنه غير مسبوق باخبار سابق ولم يرد أنه كلام مع خالي الذهن أو جعل الابتداء باعتبار قول الثالث أو المجموع، وقال الجلبي: لعل مراده أنه بمنزلة ابتداء إخبار بالنسبة إلى إنكارهم الثاني في عدم احتياجه إلى مثل تلك المؤكذات فكان إنكارهم الأول لا يعد إنكارًا بالنسبة إلى إنكارهم الثاني لا أنه ابتداء اخبار حقيقة، ولا يخفى ضعف ذلك، وقال الفاضل اليمني: إنما أكد القول الأول لتنزيلهم منزلة من أنكر إرسال الثلاثة لأنه قد لاح ذلك من إنكار الإثنين فعلى هذا يكون ابتداء اخبار بالنظر إلى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر وإنكاريًا بالنظر إلى إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر فنظر الزمخشري أدق من نظر السكاكي وإن قال السيد السند بالعكس، ويعلم ما فيه مما تقدم بأدنى نظر، وقال أجل المتأخرين الفاضل عبد الحكيم السالكوتي: عندي أن ما ذكره السكاكي مبني على عطف.
{فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} [يس: 4 1] على {فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا} [يس: 14] والفاء للتعقيب فيكون الكلام صادرًا عن الثلاثة بعد تكذيب الإثنين والتعزيز بثالث فكان كلامًا مع المنكرين فجاء مؤكدًا، وقول الزمخشري مبني على أنه عطف على {إِذْ جَاءهَا المرسلون} [يس: 3] وأنه تفصيل للقصة المذكورة إجمالًا بقوله سبحانه: {إِذْ جَاءهَا المرسلون} إلى قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 4 1] فالفاء للتفصيل فقوله تعالى: {فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} [يس: 14] بيان لقوله عز وجل: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} [يس: 4 1] فيكون ابتداء إخبار صدر من الإثنين قالوا بصيغة الجمع تقريرًا لشأن الخبر وقوله تعالى: {قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [يس: 5 1] الخ بيان لقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُمَا} وقوله سبحانه: {رَبَّنَا إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين} [يس: 6 1، 7 1] بيان لقوله عز شأنه {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} فإن البلاغ المبين هو إثباتهم الرسالة بالمعجزات وهو التعزيز والغلبة ثم قال: ولا يخفى حسن هذا التفسير لموافقته للقصة المذكورة في التفاسير وملاءمته لسوق الآية فإنها ذكرت أولًا إجمالًا بقوله تعالى: {واضرب لَهُمْ مَّثَلًا أصحاب القرية} [يس: 3 1] ثم فصلت بعض التفصيل بقوله تعالى: {إِذْ جَاءهَا المرسلون} إلى قوله سبحانه: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14 13] ثم فصلت تفصيلًا تامًا بقوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} إلى قوله تعالى: {خامدون} [يس: 16-29] وعدم احتياجه إلى جعل الفاء في {فَكَذَّبُوهُمَا} فصحية بخلاف تفسير السكاكي فإنه يحتاج إلى تقدير فدعوا إلى التوحيد. اهـ.
ولا يخفى على المنصف أنه تفسير في غاية البعد والكلام عليه وأصل إلى رتبة الألغاز، ومع هذا فيه ما فيه، وأنا أقول: لا يبعد أن يكون الزمخشري أراد بكلامه أحد الاحتمالات التي ذكرت في توجيهه إلا أن ما ذهب إليه السكاكي أبعد عن التكلف وأسلم عن القيل والقال.
{قَالُواْ} لما ضاقت عليهم الحيل وعييت بهم العلل {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي تشاء منا بكم جريًا على ديدن الجهلة حيث يتيمنون بكل ما يوافق شهواتهم وإن كان مستجلبًا لكل شر ويتشاءمون بما لا يوافقها وإن كان مستتبعًا لكل خير أو بناء على أن الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر إن لم يؤمنوا فكانوا ينفرون عنه، وقد قال مقاتل: إنه حبس عنهم المطر وقال آخر: أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل عليهم السلام، وقال ابن عطية: أن تطير هؤلاء كان بسبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس، وأصل التطهير التفاؤل بالطير البارح والسانح ثم عم، وكان مناط التطير بهم مقالتهم كما يشعر به قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} أي عن مقالتكم هذه.
{لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالحجارة قاله قتادة وذكر فيه احتمالان احتمال أن يكون الرجم للقتل أي لنقتلنكم بالرجم بالحجارة واحتمال أن يكون للأذى أي لنؤذينكم بذلك، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال: أي لنشتمنكم ثم قال: والرجم في القرآن كله الشتم.
{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال في البحر: وهو الحريق، وقيل عذاب غيره تبقى معه الحياة، والمراد لنقتلنكم بالحجارة أو لنعذبنكم إذا لم نقتلكم عذابًا أليمًا لا يقادر قدره تتمنون معه القتل، وقيل أريد بالعذاب الأليم العذاب الروحاني وأريد بالرجم بالحجارة النوع المخصوص من الأذى الجسماني فكأنهم قد رددوا الأمر بين إيذاء جسماني وإيذاء روحاني، وقيل أريد بالعذاب الأليم الجسماني وبالرجم العذاب والأذى الروحاني بناء على أن المراد به الشتم، وقيل غير ذلك.
{قَالُواْ} أي الرسل ردًا عليهم {طَائِرُكُمْ} أي سبب شؤمكم {مَّعَكُمْ} لا من قبلنا كما تزعمون وهو سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه فسر الطائرة بنفس الشؤم أي شؤمكم معكم وهو الإقامة على الكفر وأما نحن فلا شؤم معنا لأنا ندعوا إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وفيه غاية اليمن والخبر والبركة، وعن أبي عبيدة والمبرد {طَائِرُكُمْ} أي حظكم ونصيبكم من الخير والشر معكم من أفعالكم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقرأ الحسن وابن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبش {طيركم} بياء ساكنة بعد الطاء، قال الزجاج: الطائر والطير بمعنى، وفي القاموس الطير جمع طائر وقد يقع على الواحد وذكر أن الطير لم يقع في القرآن الكريم إلا جمعًا كقوله تعالى: {والطير صافات} [النور: 41] فإذا كان في هذا القراءة كذلك فطائر وإن كان مفردًا لكنه بالإضافة شامل لكل ما يتطير به فهو في معنى الجمع فالقراءتان متوافقتان، وعن الحسن أنه قرأ {أطيركم} مصدر أطير الذي أصله تطير فأدغمت التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر {أَءن ذُكّرْتُم} بهمزتين الأولى همزة الاستفهام والثانية همزة إن الشرطية حققها الكوفيون وابن عامر وسههلها باقي السبعة.
واختلف سيبويه ويونس فيما إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب فذهب سيبويه إلى إجابة الاستفهام أي تقدير المستفهم عنه وكأنه يستغنى به عن تقدير جواب الشرط فالمعنى عليه أئن ذكرتم ووعظتم بما فيه سعادتكم تتطيرون أو تتوعدون أو نحو ذلك ويقدر مضارع مرفوع وإن شئت قدرت ماضيًا كتطيرتم.
وذهب يونس إلى إجابة الشرط وكأنه يستغنى به عن إجابة الاستفهام وتقدير مصب له فالتقدير أئن ذكرتم تتطيروا أو نحوه مما يدل عليه ما قبل ويقدر مضارع مجزوم وإن شئت قدرت ماضيًا مجزوم المحل.
وقرأ زر بهمزتين مفتوحتين وهي قراءة أبي جعفر وطلحة إلا أنهما لينا الثانية بين بين، وعلى تحقيقهما جاء قول الشاعر:
إن كنت داود بن أحوى مرجلا ** فلست براع لابن عمك محرمًا

فالهمزة الأولى للاستفهام والثانية همزة إن المصدرية والكلام على تقدير حرف لام الجر أي ألأن ذكرتم تطيرتم.
وقرأ الماجشون يوسف بن يعقوب المدني بهمزة واحدة مفتوحة فيحتمل تقدير همزة الاستفهام فتتحد هذه القراءة والتي قبلها معنى، ويحتمل عدم تقديرها فيكون الكلام على صورة الخبر، وهو على ما قيل مسوق للتعجب والتوبيخ، وتقدير حرف الجر على حاله، والجار متعلق بمحذوف على ما يشعر به كلام الكشاف أي تطيرتم لأن ذكرتم، وقال ابن جني {إن ذُكّرْتُم} على هذه القراءة معمول {طائركم مَّعَكُمْ} فإنهم لما قالوا: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] أجيبوا بل طائركم معكم إن ذكرتم أي هو معكم لأن ذكرتم فلم تذكروا ولم تنتهوا فاكتفى بالسبب الذي هو التذكير عن المسبب الذي هو الانتهاء كما وصفوا الطائر موضع مسببه وهو التشاؤم لما كانوا يألفونه من تكارههم نعيب الغراب أو بروحه.
وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسورة وفي ذلك احتمالان تقدير الهمزة فتتحد هذه القراءة وقراءة الجمهور وعدم تقديرها فيكون الكلام على صورة الخبر والجواب محذوف لدلالة ما قبل عليه وتقديره كما تقدم، وقرأ أبو عمرو في رواية.
وزر أيضًا بهمزتين مفتوحتين بينهما مدة كأنه استثقل اجتماعهما ففصل بينهما بألف.
وقرأ أيضًا أبو جعفر والحسن وكذا قرأ قتادة والأعمش وغيرهما {أَيْنَ} بهمزة مفتوحة وياء ساكنة وفتح النون {ذُكّرْتُم} بتخفيف الكاف على أن أين ظرف أداة شرط وجوابها محذوف لدلالة طائركم عليه على ما قيل أي أين ذكرتم صحبكم طائركم والمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم وفيه من المبالغة بشؤمهم ما لا يخفى.
وفي البحر من جوز تقديم الجزاء على الشرط وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد يجوز أن يكون الجواب طائركم معكم وكان أصله أين ذكرتم فطائركم معكم فلما قدم حذف الفاء {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي عادتكم الإسراف ومجاوزة الحد في العصيان مستمرون عليه فمن ثم أتاكم الشؤم لا من قبل رسل الله تعالى وتذكيرهم فهو إضراب عما يقتضيه قوله تعالى: {أَءن ذُكّرْتُم} من إنكار أن يكون ما هو سبب السعادات أجمع سبب الشؤم لأنه تنبيه وتعريك إلى البت عليهم بلزام الشؤم وإثبات الإسراف الذي هو أبلغ وهو جالب الشؤم كله أو بل {أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في ضلالكم متمادون في غيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من الهداة لدين الله تعالى فهو إضراب عن مجموع الكلام أجابوهم بأنهم جعلوا أسبابًا للسعادة مدمجين فيه التنبيه على سوء صنيعهم في الحرمان عنها ثم أضربوا عنه إلى ما فعل القوم من التعكيس لما يقتضيه النظر الصحيح فتأمل. اهـ.